• حضرت وكلّي شوق لأرى صورة من لقطات الكاميرا العجيبة الجريئة الصادقة الحسّاسة...
• سأريك اليوم صورة واحدة، إنظريها ما أجملها وما أشد تعبيرها وتأثيرها!
• عينان لشيخ، صغيرتان وطيبتان وحنونتان.
• بدأت تقرئين الصور... هاتان عينا أبي، هما عينان لكنهما ليستا كأيِّ عينين!
• التقطت لعينيه هذه الصورة كي أدعو له كلما لمَحْتُ الصورة.. عيناه هاتان هما سِرُّ جمال كل ما ترَين من الصور، وسِرُّ نجاحي حسب تقييمي لنفسي، على الأقل، عيناه مفكرتي وحافزي وتذكير دائم بفضله عليّ!
• أرى فيهما حبّه ورعايته وإخلاصه في تربيتنا وسهره وكفاحه كي نصبح أفراداً صالحين غير عاديين..
• أنظر عينيه فأتذكر أشياء كثيرة في الماضي البعيد والقريب..
• كان هو من يوصلني إلى مدرستي مُمسِكاً بيدي خائفاً عليّ، وهو من علّمني الحروف والكلمات والتلاوة والتجويد والأجهزة في جسمي، والرياضيات..
• قد تتعجَّبين وتسألين: وأين المعلم؟
• أقول لك: المعلم الجيد قليل وجوده منذ زمن وليس فقط هذه الأيام، وما زلت لا أنسى تلك المعلمة التي كانت تقول أي كلام وكأنه طلاسم بالنسبة لي، تنتهي من درس الطلاسم في نصف الوقت أو أقل، ثم تجلس فوق الطاولة، وتغني، وتغني معها بعض الطالبات فتقربهن وتحبهن، فأتمنى أني لو أحفظ تلك الأغاني لأتقرب إليها بها... ولما حدَّثتُ والدي ووالدتي وشكونا أمرنا للمديرة، كالت لي من مكاييل الغيظ والحقد وإنتهى الأمر بأن أشفق عليَّ أبي حبيبي ونقلني من تلك المدرسة..
• ما زلت أذكر أني كنت طفلة صغيرة في الصف الأول الإبتدائي، يعطيني أبي المصحف ويطلب مني أن أستمع له وهو يقرأ غيباً وعليّ أن أصحِّح له إن أخطأ، فأتهجى الحروف حرفاً حرفاً ويصبر عليّ حتى أتمكن من تركيب الكلمة أو بعض كلمة...
• وإذا كنا في الطريق إلى أي مكان يسألني قراءةَ اللافتات ومعانيها.. ونقول الأدعية معاً، إن خرجنا بم ندعو؟ وإن ركبنا السيارة أو دخلنا السوق أو رأينا القمر، وعندما ينزل المطر، ماذا نقول؟... فعلمني الأدعية وعلمتُها أبنائي.
• كان يطلب منّي أن أكتب الرسائل لأهلنا هنا أو هناك، ويقرؤها ويصحِّحها، ثمّ نرسلها، فتأتيني الردود باسمي، فأشعر أني كبيرة جداً ومهمّة جداً ومشغولة جداً.. وكبرت معي هذه المشاعر التي منحتني الثقة وإحترام النفس.
• علمني حب الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم.. وأحضر لي القصص والكتب..
• صليت خلفه التراويح والقيام.. فتابع صلاتي وكان قدوة في معاملة أمي فأحببتها وإحترمتها.
• علّمني الإحسان إلى الجيران وصلة الأرحام.. وكرِهَ الغيبة وكرَّهها إليّ..
• علّمني الطموح وطلب العلا والتميز عن عامة الناس..
• علّمني أن الأوطان أحضان، ونحن بلا أوطان.
• علّمني كيف أصنع حياتي رغماً عن الممنوعات وإنتفاعاً بالمتاحات مهما قلّت، وهذا شأن الأذكياء.
• علّمني كيف أتألم لآلام الناس.. فكبرت أهتم لأمرهم، وأعتبر المسلمين أهلي أينما كانوا.
• وجدَني في مرحلة من عمري أحببت الرسم، فأحضر لي الأوراق والألوان، ففرحت ورسمت ورسمت، رسمت أبي مبتسماً وكبيراً يحتضنني وأمي وإخوتي، ورسمت فقيرة تتسوَّل وأنا أعطيها الطعام، ورسمت زهوراً كثيرة ومدرستي وصديقتي وشجراً، وقلوباً كثيرة حسبتها توزع الحُب على العالم في ذلك الوقت، وماذا فعل برسماتي؟
• ماذا فعل؟ شوقتني!
• ثبّت لي ووالدتي كل اللوحات على جدار في البيت، وفي يوم لا أنساه، دعا الأقارب لمشاهدة معرضي، وكنت ما زلت في المرحلة الابتدائية، وقفت أشرح هذه الرسمة وتلك، كنت فخورة في ذلك اليوم بأبي وأمي ونفسي وعائلتي..
• علّمني أن أعمل إرضاءً لله أولاً، وإرضاءً لنفسي وتكريماً وإحتراماً لها ثانياً.
• سمعته ينصح صديقاً له مرة يقول: البنات بحاجة للأم والأب بنفس القدر، عليك أن تكون قريباً منها، حنوناً عليها، حتى لا تبحث بناتنا عن الحنان وحلو الكلام والإهتمام عند الغرباء..
• ما أعظمك أبي!
• بقي أن أعترف بسر آخر يجعلني أحب هاتين العينين: بكاؤهما يوم ماتت جدَّتي، ويوم مرضت أمي مرضاً طال، وأثناء الدعاء، وتأثراً عند قراءة القرآن، وحزناً على مسلمين مقهورين.
الكاتب: إيمان شراب.
المصدر: موقع منبر الداعيات.